الأزمة الأوكرانية:

فلاديمير بوتين، الأخذ بالثأر من التاريخ...!

فلاديمير بوتين، الأخذ بالثأر من التاريخ...!

-- غالبًا ما يقرر في اللحظة الأخيرة الخطوة التالية في لعبة شطرنج جيوسياسية طويلة وصعبة
-- بوتين «بارع جدًا في استخدام الصورة الســلبية للشــيطان التي ألصقت بـه»
-- إنه يريد إعادة إنشاء «مجال نفوذ» في جمهوريـات الاتحـاد السـوفياتي السابق
-- يعتقد أن الوقت قد حان لقلب النظام الدولي بعد -الحرب الباردة ولا سيما هندسة الأمن في أوروبا


   بعد إثارة الأزمة الحالية حول أوكرانيا من خلال حشد ما يقرب من 190 ألف جندي على طول الحدود الأوكرانية، فإن الرئيس الروسي الواثق، في ذروة سلطته، يفترض أقصى قدر من المخاطرة... لكن هل سيتمكن من التوقف في الوقت المناسب؟    المشهد طبع النفوس. في خضم الأزمة الأوكرانية، استقبل فلاديمير بوتين إيمانويل ماكرون وأولاف شولتز في موسكو مع الحفاظ على مسافة. بين الرئيس الفرنسي أو المستشار الألماني وسيد الكرملين طاولة ضخمة من خشب الزان بطول ستة أمتار مزينة بأوراق ذهبية. أراد البعض بشكل رمزي رؤية رئيس روسي منفصلاً عن بقية العالم، معزولاً بعد عامين من الجائحة التي تجنب التعرّض إليها... يقال إنه طوّر عقليّة المحاصر.

شخصية غامضة
   ومع ذلك، ليست هذه هي المرة الأولى التي يلعب فيها الرئيس الروسي مع ضيوفه. يكفي أن نتذكّر كيف استقبل أنجيلا ميركل ذات مرة بابتسامة ساخرة في سوتشي، سامحا لكلبه لابرادور بالاقتراب من المستشارة وهو يعلم أنها تخشى الكلاب. مدير مركز كارنيجي موسكو، ديمتري ترينين يدقق: بوتين “بارع جدًا في استخدام الصورة السلبية للشيطان التي ألصقت به».

يتساءل كثيرون عن رؤية الرئيس الروسي. فأصيل لينينغراد هذا، 69 عامًا، غامض لا يمكن خرقه، وحتى أقرب مستشاريه يجدون صعوبة في معرفة ما يفكر فيه. المخابرات الأمريكية تقرّ بازدياد صعوبة اختراقه لأنه يستخدم القليل جدًا من الأدوات الإلكترونية، بل إنه يمنع أحيانًا الحاضرين معه من تدوين ملاحظات. إن عدم قدرة الغرب على فهم ذلك من نقاط قوته، وهو يعرف كيفية استخدام ذلك، وغالبًا ما يقرر في اللحظة الأخيرة الخطوة التالية في لعبة شطرنج جيوسياسية طويلة وصعبة.

   يمكن تفسير المواجهة التي يشنها ضد أوروبا والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من خلال حشد ما بين 150 و190 ألف جندي على طول الحدود الأوكرانية وبدء هجومه بعدة طرق. في السلطة طيلة اثنين وعشرين عامًا، منها أربع سنوات بين قوسين كرئيس للوزراء “2008-2012”، فلاديمير بوتين في أوج قوته.

   وفي مواجهة الدول الليبرالية التي تواجه صعوبات في أوروبا، وأيضًا في الولايات المتحدة، مسلّحا باحتياطيات مالية كبيرة متراكمة بفضل دولارات النفط التي تحميه من العقوبات المتخذة، يعتقد سيد الكرملين أن الوقت قد حان لقلب النظام الدولي بعد -الحرب الباردة، ولا سيما هندسة الأمن في أوروبا. إنه يريد إعادة إنشاء “مجال نفوذ” في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، من بيلاروسيا إلى أوكرانيا عبر كازاخستان.

استعادة الثقة والقوة
   في نظره، كان تفكك الاتحاد السوفياتي “أكبر كارثة جيوسياسية” في القرن العشرين، ومع توسع الناتو إلى الحدود الروسية، لم يف الغرب بـ “وعده”. وإذا كان عام 2007، في مؤتمر ميونيخ للأمن، قد كشف عن تظلماته العميقة، عبثًا، فانه لم يكن يملك بعد القوة والثقة التي يتمتع بهما اليوم.
    إن التدخل الروسي في سوريا كان اختبارًا لقوة موسكو (العسكرية) الجديدة. حقيقة تفاجئ دائمًا عندما نعلم أن الناتج المحلي الإجمالي لروسيا يعادل تقريبًا الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا. في السنوات الأخيرة، عزز بوتين من قوة الجيش الروسي وأسكت المعارضة، وقام بتعديل الدستور حتى يتمكن من البقاء في السلطة حتى عام 2036.

    إن أوكرانيا خط أحمر بالنسبة لبوتين الذي سيبذل قصارى جهده لوقف الانحراف الغربي لهذه الدولة المستقلة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. إن الامر مرتبط ببصمته وأثره في التاريخ. ففي نص نُشر في يوليو الماضي، أشار إلى أن السيادة الأوكرانية ممكنة فقط “بالشراكة مع روسيا”. خطابه، الذي استمر ساعة يوم الاثنين 21 فبراير، كان على نفس الخط، لكنه صدم بعض وزارات الخارجية الأوروبية.     ومع ذلك، لم يُكتب مسار فلاديمير بوتين مسبقًا. ضابط الكي جي بي، ثم مدير خلفه، جهاز الأمن الفيدرالي، لا شيء يجعل منه القيصر المستقبلي لروسيا الجديدة. ومنذ توليه الرئاسة في بداية عام 2000، سرعان ما فرض نفسه، ليُنسي الناس انهيار الروبل والاقتصاد عام 1998 وسنوات “إذلال” يلتسين.
   وفي مواجهة المتمردين الشيشان، ستصدر عنه تلك الجملة المشهورة، التي وعد فيها “بملاحقة الإرهابيين حتى في دورات المياه”. خلال فترتيه الأوليين، نما الاقتصاد الروسي بنسبة 50 بالمائة على مدار سبع سنوات، وازداد الدخل المتاح للروس بنسبة 10 بالمائة سنويًا، وطبقة وسطى جديدة آخذة في الظهور... الرئيس يحظى بشعبية.

 قدوته: ألكسندر الثالث
   لكن عام 2011، أدت المظاهرات المناهضة للكرملين إلى زرع الفوضى في البلاد.
 فلاديمير بوتين مقتنع بأنها من تنظيم هيلاري كلينتون، التي كانت آنذاك رئيسة الدبلوماسية الأمريكية.
عند توليه الرئاسة مرة أخرى بعد ديمتري ميدفيديف، سيقوي نبرته داخليا ويفرض قبضته. حقيقة لا تفاجئ ديفيد ريمنيك، محرر مجلة نيويوركر ومؤلف كتاب عن نهاية الاتحاد السوفياتي، حيث يصف بوتين على النحو التالي: “سعى إلى إضفاء الطابع الروسي على إمبراطوريته متعددة الأعراق «.

   يطبّق الرئيس الروسي قبل كل شيء، لغة القوة، ففي شبابه، كان معروفًا بالشجار في شوارع لينينغراد. وأرعبه ضعف روسيا ما بعد الحرب الباردة، ويقول في هذا الإطار: لقد أظهرنا ضعفا، والضعاف يُهزمون. في روسيا، السلطة العمودية هي التي تفرض نفسها، ويدفع خصومها الثمن.
   حتى على الصعيد الدولي، لا يبدو أن هناك شيئًا يخيف سيد الكرملين. التدخل في الانتخابات الأوروبية، وفي البريكسيت، والانتخابات الأمريكية التي جاءت بدونالد ترامب: يعرف بوتين، لاعب الجودو السابق، كيف يغتنم، بصفته تكتيكيًا بارعًا، اللحظة التي يُظهر فيها الخصم نقاط ضعفه، ويجرؤ على المجازفة كما لم يحدث من قبل.

    إن الغزو الكامل لأوكرانيا سيكون دليلاً على أنه تغيّر، لأنه يتعارض مع أهداف الكرملين ذاتها. مع العقوبات الشديدة، وتعزيز كبير لحلف شمال الأطلسي في الشرق، أو حتى عضويات جديدة مثل فنلندا أو السويد، يمكن أن تنقلب استراتيجيته ضد روسيا. ورغم أنه لا يزال أمامها طريق طويل لتصبح كذلك، إلا أن أوكرانيا تجسد ما يكرهه: الليبرالية التي يعتبرها “عفا عليها الزمن”. ومن هذا المنطلق، تموّل روسيا بوتين الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا من أجل إفشال ذلك بشكل أفضل.