الاتحاد الأوروبي أمام مفترق طرق.. الفيدرالية أم السيادة الوطنية؟

الاتحاد الأوروبي أمام مفترق طرق.. الفيدرالية أم السيادة الوطنية؟


يقف الاتحاد الأوروبي، اليوم، عند منعطف حاسم في تاريخه، حيث تتصاعد التوترات بين دعاة المركزية في بروكسل وأنصار الحفاظ على سيادة الدول الأعضاء. هذا الصراع الذي يعيد تعريف طبيعة المشروع الأوروبي، يطرح سؤالاً جوهرياً: هل يتجه الاتحاد نحو دولة فيدرالية موحدة أم يجب أن يظل تحالفاً بين دول ذات سيادة؟.
في أيلول- سبتمبر 2024، أصدر ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، تقريراً مثيراً للجدل حول مستقبل التنافسية الأوروبية. 
يدعو التقرير إلى إلغاء حق النقض والانتقال إلى التصويت بالأغلبية المؤهلة لتسريع اتخاذ القرارات، مما يعني نقل المزيد من السلطات من الدول الأعضاء إلى المؤسسات المركزية.
من جهته يرى الباحث نوربرت سزاري من جامعة لودوفيكا للخدمة العامة في بودابست أن التقرير يعكس القيم السياسية لنخبة الاتحاد الأوروبي، ويمكن اعتباره أداة لتحويل مشكلة إلى أزمة وجودية لتبرير توسيع صلاحيات الاتحاد على حساب السيادة الوطنية.
وفي مناظرة استضافتها بروكسل في نوفمبر 2025، حذّر عضو البرلمان الأوروبي مايكل فون در شولنبورغ من أن الاتحاد يحاول الحفاظ على نفوذه العالمي رغم التراجع الديموغرافي. 
وأشار إلى أن التحول في وصف الدول من «دول وطنية» إلى «دول أعضاء» يعيد صياغة العلاقة بمهارة ليوحي بالتبعيـــــة بدلاً من السيادة.
من جهتها، انتقدت بوغلاركا بويا، المفوضة الوزارية في وزارة الشؤون الأوروبية المجرية، فكرة «الولايات المتحدة الأوروبية»، مؤكدة أن الوحدة لا يمكن أن تحل محل الحرية، ودعت إلى أوروبا الأمم التي تحافظ على الهوية الثقافية والسياسية.
السيادة الرقمية..  ساحة معركة جديدة
شهد تشرين الثاني- نوفمبر 2025 قمة فرنسية-ألمانية حول السيادة الرقمية الأوروبية في برلين، حيث أطلقت مشاريع رائدة مثل «الذكاء الاصطناعي السيادي للإدارة العامة». لكن الخبراء يشيرون إلى انقسامات عميقة، حيث تسعى فرنسا لنسخة مركزية على مستوى الاتحاد، بينما تفضل ألمانيا نهجاً متكاملاً عالمياً. يحذّر الباحثون من جامعة كامبريدج من أن السيادة الرقمية أصبحت غامضة بما يكفي لتكون سطحاً إسقاطياً لمطالب سياسية متنوعة، مما يهدد بجهود مكلفة وبلا اتجاه واضح.
في الربع الأول من 2025، زاد الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.4% في منطقة اليورو و0.3% في الاتحاد الأوروبي، متجاوزاً التوقعات. لكن التحديات الهيكلية طويلة الأمد تظل قائمة، خاصة في ظل المنافسة مع الولايات المتحدة والصين. ويشير النقاد إلى أن التركيز الشديد على القيود التنظيمية يقود إلى نهج تكنوقراطي مغلق ومركزي للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لا يتناسب مع الديمقراطية التعددية. هذا التوجه يثير مخاوف من تهميش الاعتبارات الديمقراطية لصالح المنافسة الاقتصادية.

الانقسام المتزايد
تعكس البيانات الأخيرة انقساماً واضحاً داخل الاتحاد. أظهر استطلاع يوروباروميتر، في تشرين الثاني- نوفمبر 2024، أعلى مستوى ثقة في الاتحاد منذ 2007 بنسبة 51%، لكن هذه الثقة تتفاوت بشكل كبير بين الدول، حيث تسجل البرتغال 67% بينما تسجل فرنسا 35% فقط. في آذار- مارس 2025، ظهر مشروع «إعادة الضبط الكبرى» الذي يهدف إلى تقويض أسس الاتحاد الأوروبي من خلال تعديله أو تفكيكه، مستخدماً الحجة بأنه غير ديمقراطي. هذا المشروع مدعوم من مراكز أبحاث محافظة في المجر وبولندا.

مبدأ التبعية المهمل
يشكل مبدأ التبعية - الذي ينص على أن القرارات يجب أن تُتخذ على أقرب مستوى ممكن من المواطنين - توازناً مضاداً مقصوداً ضد جاذبية السلطة نحو بروكسل. لكن الواقع يظهر أن هذا المبدأ غالباً ما يُهمل في الممارسة العملية.
ويحذّر الخبراء من أن محاولات بناء السيادة الأوروبية تواجه تحديات بنيوية عميقة. الاتحاد يتفوق في التعريف لكنه يتعثر في التنفيذ، حيث تعتمد السياسات على جداول التنفيذ الوطنية الخاضعة للدورات السياسية المحلية.

الطريق إلى الأمام
مع اقتراب انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة، يتوقع المحللون أن يشتد الصراع بين «الفيدراليين» و»السياديين». وصف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الانتخابات المقبلة بأنها معركة بين هاتين الرؤيتين، وتشير استطلاعات الرأي إلى مكاسب كبيرة محتملة للقوى المناهضة لتكامل الاتحاد.
تشير الدلائل أيضاً إلى أن الاتحاد الأوروبي يقف عند مفترق طرق تاريخي. فمن جهة، تدفع التحديات الجيوسياسية والاقتصادية نحو المزيد من التكامل والمركزية. ومن جهة أخرى، تتزايد المقاومة الشعبية والسياسية لما يُنظر إليه على أنه تعدٍ على السيادة الوطنية والهوية الثقافية.
يعتمد مستقبل المشروع الأوروبي على قدرة قادته على إيجاد توازن دقيق بين الحاجة إلى العمل الجماعي الفعال والحفاظ على الحكم الذاتي الديمقراطي للدول الأعضاء.
هذا التوازن، كما يؤكد المحللون، سيحدد ما إذا كان الاتحاد سيزدهر كتجربة فريدة في الحكم المشترك، أم سيتفكك تحت وطأة التوترات الداخلية المتزايدة.